يافا في سطور    اعلام الفكروالقيادة جهاد و كفاح  مقالات واراء        ذكريات        شعر       فيديو وموسيقى الصفحة الرئيسية

يافا القدس عمان و بالعكس (رحلة الشتات و العودة)
ذكريات و روايات
cover
  
    

ذكريات
الصفحة الاولى الصفحة الثانية الصفحة الثالثة

من ذكريات  المرحوم المناضل شفيق الحوت

حكاية حي المنشية بيافا بقلم: رنين جريس علاء ابو ضهير/ المنشية 2010
ذكريات الفنانة اليافاوية تمام الاكحل في يافا  ذكريات من يافا للإعلامي هشام الدباغ بداية حصار بيروت 1982: مأمون التميمي
ذكريات ناصر الدين النشاشيبي في يافا سأخبركم عن الفران حسين خليل ابورزق/ مذكرات لاجئ من يومه
حكاية عائد الى يافا    

   

من ذكريات  المرحوم المناضل شفيق الحوت

chafiq

هذا وصف مشوق وجميل عن شوارع يافا و مقاهيها و مدارسها و متاجرها و مختلف اوجه الحياة بكلمات المرحوم المناضل شفيق الحوت:

       ولو سألتني، قبل اغتصاب "الأرض" في فلسطين، عن ذلك الشارع في يافا، الموصل بين بيتي ومدرستي، والذي قطعته ذهاباً وإياباً آلاف المرات، لوجدتني أوجز أيما إيجاز، غافلاً عن الكثير من التفاصيل. ولكن، حاول أن تجربني الآن، من الذاكرة التي تتحدى القهر وعشرات من السنين، لتسمع مني عجبا

 ولابأس في أن نستعيد اليوم ذلك المشوار:

       لم يكن في "شارع العالم" حيث كنت أسكن، محطات لـ "الباصات"، وكان الشارع حكراً على "الدلجنصات" أو الكروسات بسبب ضيقه. لذلك، كان علي السير على الأقدام غرباً لأصل إلى الشارع الموازي، "شارع حسن بك" الذي كان يفاخر أصدقاؤنا من سكانه علينا لمرور الباصات فيه. وحسن بك هو شخصية حلبية اشتهرت في المدينة بعد أن أقام فيها مسجداً عرف باسمه. وهو لا يزال قائماً حتى اليوم متحدياً عشرات المحاولات لهدمه. كان مسجداً رحباً، تحيط به الحدائق من كل جانب، وتظلله عرايش العنب المعربشة على جدرانه.

       محطة الباص رقم "2" قرب المسجد، وهناك كنا ننتظر الباص الآتي إلينا من محطته النهائية عند أبواب تل أبيب، والمتجه جنوباً إلى وسط المدينة، إلى ساحة "الساعة" التي تشبه ساحة "التل" في طرابلس الشام، ونبدأ المشوار في "الباص رقم 2".

      أول محطة عند "التلة الحمراء" أو "تلة بيدس" نسبة إلى أسرة بيدس الثرية، التي أقامت فوقها قصراً منيفاً يشبه القلاع البريطانية القديمة.

       فإلى هذه التلة، لا بد من عودة بعد انتهاء الدروس، لنلعب "الفوتبول" على طرفها الغربي وفوق ترابها الأحمر المتصل برمال الشاطئ الفضي. ومن يدري، فقد نغطس، بعد المباراة، في زرقة مياه البحر بعد أن نرمي ثيابنا على الشاطئ المباح للجميع.

      ويمضي بنا الباص الحبيب صاحب الرقم "2" في الشارع الرحب، حتى يصل إلى "نقطة بوليس المنشية" وداخلها "الضابط عبد الله"، القصير القامة غير المحبوب، باعتباره ممثل السلطة، ويتباهى في مشيته في الشوارع بصحبة الجنود الانكليز. ما أكثر ما "أسقطنا" الضابط عبد الله في هتافاتنا خلال التظاهرات! بعد نقطة البوليس، ينتهي "حي المنشية" ويبدأ "حي أرشيد" فينعطف الباص عن هذا الحي لاستحالة المرور بزواريبه العتيقة الضيقة، ليسلك طريق "المحطة" بعد أن يمر بـ "فرن خلف" (أقرباء "أبو إياد" صلاح خلف)، فينعطف مرة ثانية من قرب ملحمة "الضعيفي" التي كانت رائحة الشواء تفوح منها باستمرار ويسب لها اللعاب. وكانت طريق "المحطة" تعج بالمتاجر والمقاهي. و"الانشراح" أهم المقاهي وأشرحها. من زبائن المقهى الدائمين، والذي كنا نراهن بعضنا البعض ـ ونحن في الباص ـ حول وجوده أو عدم وجوده لحظة مرورنا، هو الشيخ عيسى أبو الجبين، الذي يقال ـ على ذمة الرواة ـ أنه كان من دعاة مقاطعة المساهمة في شركة "روتنبرغ" للكهرباء، مما أدى إلى احتكارها من قبل اليهود! ومن طرائف طريق "المحطة" التقاء عربات "الدلنجص" بالباصات، وكم من سائق باص كان في السابق "عربجياً" فنجده يمد رأسه من النافذة باعتزاز ليقذف زملاءه السابقين بنكتة لاذعة يضحك منها الجميع. وكنت أتعاطف مع العربات وأصحابها، يؤنسني صوت أجراسها، ووقع أقدام الخيل، وحتى صوت الكرباج وهو يلعلع حاثاً الحصان على السرعة، أو مهدداً طفلاً شقياً "تشعلق" على قفا العربة.

      ونترك "محطة سكة الحديد" عن يسارنا، ونواصل السير لنتجه إلى شارع "اسكندر عوض".

     ولا أعرف من هو "اسكندر عوض" هذا، الذي يحمل هذا الشارع التجاري الأنيق اسمه. لكني أعرف أن يافا كان فيها عدد كبير من كبار العائلات المسيحية في فلسطين من أمثال: عائلة خياط، وعائلة حمصي، وعائلة روك، وعائلة البارودي، وعائلة غرغور، وعائلة اندراوس، وغيرها وغيرها. وكان معظمها يقيم في "حي العجمي" حيث أعرق وأحلى الكنائس ومن كل الطوائف.

       وعلى قدمه، فإن "شارع اسكندر عوض" كان من أحلى شوارع يافا، في متاجره وواجهاته، وتنوع المحلات التي فيه. وكانت الطبقات التي تعلو المتاجر مكاتب للمحامين، أو عيادات أطباء.

      ويصب هذا الشارع في "ساحة الساعة"، أقدم ساحات يافا وأكثرها عراقة. كانت "الساعة" ببرجها العالي في منتصف الساحة، التي طالما شهدت التظاهرات الصاخبة عندما نلتقي بجموع المصلين الخارجين من "الجامع الكبير". ها هو "القشلاق" الرهيب المحاط بالأسلاك من كل جانب، والمطل على الميناء والبحر من الناحية الغربية، بينما بوابته في الناحية الشرقية تواجه الساحة الفسيحة. وأمام "القشلاق" يقوم مبنى "محكمة الصلح" الذي نسفه الإرهابيون الصهاينة اول سنة 1948، واستشهد فيه عدد من خيرة شباب المدينة، منهم أستاذنا في الابتدائية زكي الدرهلي الذي سبقت الإشارة إليه. وعلى امتداد مبنى المحكمة جنوباً، مجموعة متاجر ودكاكين ومطعم لأشهى طبق فول مدمس، هو مطعم "فتح الله". كان "فتح الله" فناناً لا "فوالاً"، والويل لك إن أبديت ملاحظة فيما يتعلق بالطبق الذي يقدمه لك. من يدخل مطعمه عليه أن يأكل على ذوق المعلم وإلا "فمع ألف سلامة"!

     وراء هذه الواجهة، كان يقع "سور الدير" حيث تجارة الحبوب والغلال أو ما هو معروف بـ"مال القبان". وهناك كان تجار يافا المشهورون من أمثال: "بيبي"، و"الأبيض"، و"تماري"، و"حبش وكركر"، و"الهاها"، و"القدسي"، وغيرهم.

     ولا يمكن الحديث عن "ساحة الساعة" من دون الحديث عما وراءها من الناحية الغربية حيث بداية الطريق إلى ميناء يافا التي أصبح "برتقالها" أي المصدر من مينائها، أشهر برتقال في العالم مما أجبر إسرائيل التي غيرت كل أسماء مدن وقرى فلسطين ـ بما في ذلك اسم يافا الذي أصبح "يافو" ـ على الإبقاء على الاسم العربي للبرتقال خشية أن يفقد سمعته التجارية الواسعة.

      على ناصية الشارع الموصل إلى الميناء، يقع مقهى "المدفع"، والاسم منسوب إلى ذلك "المدفع التركي" الرابض أمامها وفوهته صوب البحر، ويستعمل في رمضان إشارة إلى وقت الغروب. ورواد المقهى الأساسيون هم بحارة يافا الأشاوس الذين لهم تاريخهم في النضال الوطني. وبالقرب من هذا المقهى "نادي الشبيبة الإسلامية" الذي أصبح ملتقى الشباب الوطني من طلبة ومثقفين، وأحد مراكز صنع القرار السياسي في المدينة، الذي قام بدور مهم في محاولة تنظيم المقاومة العربية سنة 1948، فاستشهد عدد من أعضائه، وانضم البعض الآخر إلى "جيش الإنقاذ"، ومنهم من استمر في السلك العسكري حتى قيام منظمة التحرير الفلسطينية، مثل العميد محمد الشاعر الذي كان ملحقاً عسكرياً في مكتب المنظمة في لبنان، ثم أصبح ممثلاً للمنظمة في موسكو.

     وكان بعض شباب مدرسة "العامرية" يترددون على هذا النادي ويفيدون من إمكاناته لنشاطاتهم الطالبية. فمن هناك تحركنا وأقمنا أول اتحاد لطلبة فلسطين، الذي كان للصديق الدكتور إبراهيم أبو لغد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نورث وسترن الأميركية، دور كبير في بنائه، وكنا من مساعديه في هذا المضمار. وإلى الجنوب من النادي تبدأ "هضبة الرميلة" حيث يافا العتيقة التاريخية. وعلى سفح تلك الهضبة كانت توجد مطاعم "الكباب" اليافية الشهيرة، ومن أشهرها مطعم "الزراري" ومطعم "عبد الرحيم"، وبالقرب منها "حلويات حمودة" و "الشامي" أشهر محلات البوظة في ليالي رمضان المؤنسة.

      والآن نترك منطقة الميناء لـ "آل البلطجي والقمبرجي" أصحاب التخصص التاريخي بعالم الموانئ، وهم من العائلتين نفسيهما المعروفتين في بيروت وفي مينائها بصورة خاصة، ونستأنف المشوار، في الباص "رقم 2" نفسه، ولكن بعد دفع "قرش آخر"، باعتبار أنها رحلة جديدة.

     يقطع الباص الساحة ويتجه يساراً ليدخل بداية "سوق الصلاحي"، أحد شوارع يافا التجارية الأخرى وملتقى تجار البرتقال وجميع العاملين في هذه التجارة الكبرى من سماسرة يتمتعون بخبرة هائلة ومعلوما لا حدود لها عن كل "بيارة" برتقال في فلسطين. وإلى تجار الورق والأخشاب والمسامير الخ. كل تجار البرتقال في يافا كانوا يبدأون يومهم بفنجان قهوة في مقهى "داوود" ذي الساحة الرحبة والأشجار الظليلة، وربما مع صحن فول من مطعم "الكلحة" فهناك حول تلك الطاولة، مثلا، تجد سعيد بيدس، ومحمد عبد الرحيم، وإبراهيم خليل الحوت، والحاج ديب حمدان، وأبو هاشم القدسي، وحمدان مرسي، وإبراهيم وزكي بركات، وعبد المحسن حجازي، ومحمد علي القطان، وغيرهم...

     وعند نهاية هذه السوق، تبدأ سوق أخرى هي "سوق الخضار" ومعظم أركانها من أصل قروي، ومن غزة، التي كانت تربطها بيافا روابط تجارية متينة.. ويستمر الباص في طريقه حتى نصل إلى ساحة بلدية يافا بحديقتها الفاتنة. هنا ننزل من الباص، ونتابع المشوار مشياً على الأقدام صوب "العامرية" في "حي النزهة" الذي يستحق اسمه من كثرة أشجاره وخضرته وحدائقه. وساحة البلدية هي مدخل يافا إلى الشرق والجنوب معاً، وترى الباصات وافدة عليها من القدس وغزة وكل فلسطين، باستثناء حيفا التي كانت الطريق إليها تمر بتل أبيب. وفي مقهى البلدية أو "الحلواني" يجلس التجار وكبار الموظفين وأقطاب البلد إن جاز اعتماد مثل هذا التعبير، لأن يافا تختلف عن القدس وغزة ونابلس وعكا بافتقارها إلى "العائلات" بالمعنى الذي كان معروفاً في تلك المدن. ويافا فلسطينية أكثر منها "يافية"، وحتى يمكن القول إنها عربية بقدر ما هي فلسطينية، وذلك لكثرة ما فيها ممن هم من أصول عربية مختلفة. لم يكن في يافا "العائلات" ذات التأثير السياسي، أمثال "الحسيني" و"النشاشيبي" في القدس، أو من هم أمثال "الشكعة" و"المصري" و"طوقان" في نابلس، أو من هم أمثال "الشقيري" و"السعدي" في عكا، أو من أمثال "الشوا" و"بسيسو" و"الصوراني" و"أبو رمضان" في غزة. من عائلات يافا القديمة عرفت "آل البيطار" و"آل هيكل"، ويقال إن جذورهما تعود إلى مئات السنين. ولقد شهدت "ساحة البلدية" كذلك الحشود والتظاهرات الوطنية، ولا سيما عندما كانت تعقد المهرجانات العامة في قاعة "سينما الحمرا" القريبة منها. وكانت تلك السينما، وقتئذ، فريدة من نوعها في الشرق الأوسط من حيث الضخامة والفخامة. وعلى ذكر البلدية وساحتها، فلقد عرفت رئاستها أربع شخصيات معروفة على التوالي: عاصم بك السعيد، وعمرالبيطار، ثم شقيقه عبد الرؤوف، وآخر رئيس لها كان الدكتور يوسف هيكل، الذي كان أول من وصل إلى هذا المنصب عن طريق الانتخاب لا التعيين.

     وإني لأذكر تلك الانتخابات، التي كانت مناسبة لإقامة المهرجانات الوطنية، حيث كان المرشحون يتسابقون إلى كسب ود الحاج أمين الحسيني الذي كان يقيم في مصر وقتئذ، والكل يدعي الوصل به. فلقد كانت كلمته ساحرة التأثير في الناس ولأسباب عائلية، ازداد اهتمامي بالانتخابات، إذ كان أحد أعمامي أحمد سليم الحوت من المرشحين فيها، من خلال قائمة ضمته مع موسى الكيالي وعبد الرحمن السكسك وسليم السعيد والحاج مصطفى أبو غبن، وذلك في مقابل لائحة تزعمها الدكتور يوسف هيكل وكان معه رباح أبو خضرا وحسن خلقي الدجاني ورشاد أبو الجبين وخليل مقدادي وأحمد أبو لبن. وقد انتهت الانتخابات بفوز كامل للدكتور يوسف هيكل وأركان قائمته. وقيل يومها على لسان المعارضين لهيكل إنه كان يستحيل نجاحه لو لم يسبق ذلك تعيينه رئيساً للبلدية. ومن المؤكد أن هيكل لم يكن من المحسوبين على المفتي، شأنه شان معظم رؤساء البلديات في فلسطين. وكان أول "دكتور" سمعت عنه ولا علاقة له بالطب.

      في طريق عودتنا من المدرسة "العامرية" كنا نؤثر السير على الأقدام. شلل من الطلبة والطالبات، ولا سيما طالبات مدرسة "الزهراء"، توأم المدرسة "العامرية" وجارتها. كنا نعبر الشوارع مثل قوافل من زهر، نتحادث، نتسامر، وحديث الوطن يغلب في النهاية كل حديث.

      أما نحن أبناء "حي المنشية" فلقد كان علينا، بعد الوصول إلى ساحة البلدية، أن نستمر شمالاً في الشارع الجميل، شارع "الملك جورج"، أو شارع "جمال باشا سابقاً"، وكنا نسميه نحن "شارع النزهة"، معلنين تمردنا على الأتراك والانكليز معا. ويصل بنا المشوار إلى سينما الحمراء، وسينما فاروق، ومن بعدهما نصل إلى شارع متفرع إلى ملاعب البصة حيث كانت تقام الاحتفالات الرياضية الموسمية، ومباريات كرة القدم حيث تلتقي أندية فلسطين المختلفة. وكان "النادي الإسلامي" و"النادي الأرثوذكسي" أشهر فريقين في يافا. والمرات القليلة التي استضافت فيها هذه الملاعب أندية يهودية مثل "المكابي" و"الهابوعيل" كانت تحتشد بآلاف المتفرجين. كذلك شهدت ملاعب البصة مهرجانات واستعراضات "حزب النجادة" برئاسة محمد نمر الهواري الذي خلت له الساحة بغياب الحاج أمين الحسيني، حتى عاد جمال الحسيني من منفاه وأنشأ تنظيماً باسم "شباب الفتوة". وجرت محاولة لتوحيد التنظيمين شبه العسكريين قبل النكبة قليلاً، لكن المحاولة فشلت، ولم يثبت أي من التنظيمين أي وجود مؤثر خلال حرب 1948.

       وفي الشارع نفسه، لكن في الجهة المقابلة، كان يقع فندق "كونتننتال" الذي كان ملتقى الأدباء والشعراء، والذين كثر وجودهم في يافا بعد قيام "محطة الشرق الأدنى" واختيار يافا مقراً لها. على شرفة "الكونتننتال" تعرفنا على وجوه عديدة من أدباء فلسطين والعرب وبخاصة من مصر، أمثال توفيق الحكيم، والعقاد، والخميسي. ومن الفنانين كنا نشاهد أمير البزق محمد عبد الكريم، وصابر الصفح، وحليم الرومي، ويوسف رضوان، وعبد الوهاب، ويوسف وهبي، وبشارة واكيم، وكثيرين غيرهم، يتحلقون حول المقرئ الخفيف الظل الشيخ محمد فريد السنديوني. ومن شباب يافا، أهل الصحافة والكتابة والإذاعة كنا نرى رشاد البيبي، وشاعر الشباب محمود أفغاني، ومحمود الحوت، وكنعان أبو خضرا، وابراهيم الشنطي، وشقيقه صادق، ومصطفى الطاهر، وصاحب اللسان السليط هاشم السبع صاحب جريدة "الصريح". وكانت يافا عاصمة الصحافة العربية الفلسطينية بلا منازع، ففيها تصدر "الدفاع" و "فلسطين" و "الصراط المستقيم" و "الشعب" و"الوحدة". وكانت كلها، في مقياس تلك الأيام، من طليعة الصحف العربية، والثانية بعد صحف مصر.

     ما زلنا على الطريق، وها هو الشيخ عبد القادر المظفر يجلس أمام عمارته الشاهقة، التي كان يشيع أنصار المفتي أنه بناها من أموال جمعها المظفر من الهند لنصرة فلسطين، والله أعلم. ما أعلمه أنا أن المظفر كان فحلاً من فحول المنابر، وإذا استلم "الميكروفون" لا يتركه. ونستمر في المشوار فنصل إلى مبنى دائرة البريد بحجارته البيض وردهاته الفسيحة التي تلمع من نظافتها. وأستأذن لحظة لأرى إن كان ثمة رسائل في ص.ب. رقم 416. فذلك صندوق بريدنا الذي حمل إلي ذات يوم "جواز السفر" رقم 212023 حين كنت أحلم بالسفر إلى بريطانيا لدارسة القانون. وهو الجواز نفسه الذي أصر الضابط الإسرائيلي على مصادرته عندما دخل الغزاة بيروت الغربية.

      أمام مبنى البريد، هناك "ملهى البوسطة" وهو أرقى من زميله "ملهى الظريفية" في ساحة "الساعة"، وكان يحيي لياليه فنانون وفنانات من مصر ولبنان. ها هو ملصق الفنانة الصاعدة يومئذ "سهام رفقي" وأغنيتها المشهورة "يا ام العباية". وهناك "مقهى البريستول". ونصل إلى المفترق، حيث تقاطع شارع "اسكندر عوض" بشارع "يافا ـ تل ابيب" بشارع "المحطة". وشرطي السير في منتصف التقاطع تحت خيمته المعدنية يوجه سير السيارات، والتقاطع رحب، يكاد يشكل ساحة، إلى جانب منها "سينما نبيل" لصاحبها علي المستقيم، وأمامها "سينما الرشيد"، وبينهما "شركة باصات القدس" التي كنت أشعر بعاطفة خاصة تجاهها لأن اخي جمال كان يدرس في القدس ويركب باصاتها. كان يدرس في "النهضة"، الكلية التي أسسها خليل السكاكيني وإبراهيم شحادة الخوري، من كبار المربين في فلسطين، وكان يديرها لبيب غلمية من مرجعيون.

      ينتهي بنا المشوار عند هذا الحد.فشارع "المحطة" تحدثنا عنه ونحن قادمون إلى المدرسة، وكذلك شارع "اسكندر عوض". أما شارع "يافا ـ تل ابيب"، فهو نقطة البداية في التشابك السكاني العربي ـ اليهودي، وكان مقر دائرة حاكم اللواء، ومقر الـ "سي. أي. دي" أي دائرة المباحث الإجرامية، التي شهدت أروقتها عذاب المئات من الفلسطينيين المناضلين.

_____________________________________________________________

من ذكريات الفنانة اليافاوية السيدة تمام الاكحل في يافا

tamam

       كنت أصحو صباح كلِّ يوم على صرير مُفَصَّلات شبابيك غرفة نومنا، أنا وأخوتي الصِّغار، هي بالحقيقة غرفة جدتي التي ولدت بها. ثم ولد فيها والدي ثم نحن جميعنا. وتُعرفُ هذه الغرفة بغرفة(العَقِدْ) لكثرة ما بها من عقودٍ وأقواس، كما هو المعروف بطراز البناء في يافا القديمة الجميلة، التي تُحاكي التاريخ بجميع عصوره.

       تفتح أمي الشبابيك فيتسرّب الضوء، ثم النسمات العليلة، تحمل إلى أنفي عَبقَ زهر البرتقال، فيدخل إلى رئتيَّ. وأتثاءب وأنا على السرير، وينساب في أذني صوت أمي:

         يللا صباح الخير يا تمام يللا يمّا

      نتراكض وإخوتي على الحمَّام الواحد، لأعود لنفس الغرفة العَقد، فألبس مريول المدرسة المصنوع من غزل المجدل، وهو مقلم بالأزرق والأبيض..

لأجد أميِّ ابتدأت بجمع الفراش عن الأرض لتضعه على الصندوق الخشبيِّ الكبير، وعليه نقوشٌ نحاسيِّةٌ من أجمل ما رأيت في حياتي، وهذا اسمه(صندوق ستّي)،

      يكاد لا يخلوا منه منزل في البلاد، فكانت أمي تضع فيه ملابسنا غير الموسميَّة، تُرَصُّ فوقه الفراش ثمَّ اللحف ثم المخدات فيسمى هذا كله ب"سدّة الفراش"، وتغطي أمي هذه الشِّدَّة بشرشف جميل، ثم تسدلُ عليه ستارة جميلة، فلا يُرى من خلف الستارة شيء، تم تكنس أرض الغرفة المكسوة ببُسُط الصُّوف ذات الألوان والمساحات الجميلة،كنا نقول عنها بسطٌ غزاوية نسبة لصناعتها بغزة. بعد ذلك، ألبس المريول(والشبرة البيضاء) والكلسات البيض، وتطارد قدماي الريح، أنا وإخوتي، ونمشي كقطيع من الإوزِّ الأبيض، كلٌّ يدخل إلى مدرسته، وأواصل سيري إلى مدرستي(الزهراء) في حيِّ النزهة، وعند مفرق مدخل شارع النزهة المنحدر إلى مدرستي، التقي بالعديد من تلميذات نفس المدرسة.

__________________________________________________________

ذكريات ناصر الدين النشاشيبي في يافا

  يقول الصحفي العريق ناصر الدين النشاشيبي ما يلي: «اعود بنفسي وذكرياتي الى اليوم الذي حملت فيه القلم كي اصبح صحافياً، كان ذلك في بلدي فلسطين، في مدينة «يافا» بالذات!! وكان التاريخ بدء الاربعينات .. وكانت يافا هي بلد البرتقال والزهر والحب والصحافة.

 
كانت يافا مقر اشهر اذاعات الحرب العالمية الثانية والمعروفة باسم «الشرق الادنى للاذاعة العربية» وكان معنا في يافا وفي الصحف وفي الاذاعة اكبر الادباء واشهر الفنانين منهم: عباس محمود العقاد، سامي الشوا، ابراهيم عبدالقادر المازني، سليم اللوزي، فريد الاطرش، الاخطل الصغير، امين نخلة، حليم دموس، محمد عبدالمطلب... وألف أديب وصحافي وفنان . وكان معنا ايضاً قضية اسمها فلسطين.. وفي يافا كانت البداية، -وعندما سقطت بيد «الهاجانا»- كانت النهاية.
         

               

               ويذكرنا ناصر الدين النشاشيبي: وعندما يأتي موسم «البرتقال» كانت حياة يافا تتضخم بالثروة وليالي الانس، كان اهلها يحبون الطرب والفرفشة والسهر على مسارح يافا على مدى شهور السنة، وقد عرفت يافا السيدة ام كلثوم وعبدالوهاب وفريد الاطرش ويوسف وهبي والفرقة القومية ونجيب الريحاني وعلي الكسار واسماعيل ياسين عشرات المرات.. ذلك ان معظم عائلات يافا كانوا من اصل مصري!!.

           وماذا لو قلت ان برتقال يافا لم يتحكم في حياة اهل يافا المالية والاجتماعية فحسب وانما تحكم في حياة يافا الصحافية ايضاً، وما زلت اذكر ان اعظم المعارك الصحافية بين جريدتي الدفاع وفلسطين في عام 1946 كانت بسبب الخلاف الذي نشب يومذاك بين «مصدري» البرتقال و»مزارعي» البرتقال حول زيادة اسعار المنتوج.. الخ.

              يتابع: وكنت اذهب الى يافا واسهر مع زملائي الصحافيين فيها عند مسرح وقهوة «ابو شاكوش» المقابلة لمكاتب جريدة الدفاع، او في مقهى نجمة الشرق او في مقهى «الظريفية» او اذهب للسباحة مع زملائي في الجامعة على شاطئ الشباب. فاذا جاء المساء انتقلنا الى فيلا قريبة تقع على الشاطئ وقد تحولت الى مقهى يملكها احد افراد عائلة السكسك، وكانت احاديثنا مملوءة بالنقد والسخرية على انفسنا، وعلى الصحف التي كنا نكتب فيها، وكنا نسأل انفسنا: هل هذه حقاً هي حدود حياتنا الفكرية والسياسية؟! وهل نحن نكتب –في الواقع- لقراء هم في الحقيقة من تجار البرتقال لا يقرؤون الصحف الا بعد الظهر ولا يهمهم من الصحف الا اسعار البرتقال؟! ولا يذهبون الى المقاهي الا للالتقاء بعمالهم وتوزيع الاجور عليهم.. كنا نسهر كثيراً ونضحك كثيراً ونكتب كثيراً.                                                                       

  ______________________________________________________

حكاية عائد الى يافا

        هاهو الباص السريع يمر من امام مبنى بلدية الرملة، ثم محطة حمدان مرسي ثم مقهى البلور ثم يعبر عن الشارع المؤدي الى مدرسة صاحبنا، و ما زلنا في الرملة نمر من امام مقر الجمعية الاسلامية ثم محلقة خليل أبو شنب، ها هو حي المحص، ها هو حي المقلبين، ها هي سكنة فانوس، ها هو سجن الرملة ها هي سكة حديد صرفند العمار، ها نحن نعبر بيارات البرتقال والليمون والخشخاش، ها هو دوار بيت دجن، وها نحن على... مشارف سلمة ويازور، ثم دوار ابو كبير على مدخل يافا، ها هي مزارع قصب السكر وبيارات البرتقال وكازية ابو احمد ابو عمارة،

        و دخلنا يافا، شارع اسكندر عوض وامام سينما الحمراء ومحلات الكف الاحمر، ها انا في سوق السمك ثم سوق اللحامين، ها أنا امام برج الساعة، ها انا في العجمي وكل شيء يبدو غريبا حتى الوجوه التي أراها غريبة والبنايات تغير شكلها والدنيا التي كانت لنا ثم اضحت لغيرنا لم تعد لنا، احس بأن كل شيء قد تغير و اخذت الامور تلتبس عليه فأحس بكآبة وغامت الدنيا ، فكل ما تراه يثير في النفس الشفقة و الحزن على ما آلت اليه يافا ، وحين وصلت الى مقهى المدفع المعروف كان مغلقاً، والكراسي الخشبية ما زالت ملقاة باهمال امام الابواب المغلقة وقد علاها الغبار وشملها الاهمال، سمعت امرأة من يافا تقول «ما لك يا خوي» و لكني أكملت الطريق مسجد حسن بك و دخلت مجيبا آذان صلاة المغرب

الصفحة التالية                  الصفحة الثالثة